
في رُبى بلاد شنقيط، حيث يختلط نور الحرف بعطر الزهد، ويجتمع علم السلف مع لُبِّ التصوف، يبرز اسم الشيخ الولي محمذٍ بن محمودا كواحد من أعلام العصر، وركن من أركان اللسان والبيان، وفقيهٍ ورعٍ غمرته أنوار المعرفة، ووسمته كرامات الأولياء.
صلاحه وسمته:
الشيخ الولي محمذٍ مثال يُحتذى به في الصلاح والسمت الحسن، إذ جمع بين جمال الهيئة ونقاء السريرة. عرف عنه التواضع الجم، والحضور الهيِّن الليِّن الذي يستفزّ في النفس مهابة العلماء دون تصنّع ولا تكلّف. لا يُعرف عنه أن خاض في أعراض أحد، ولا أن نطق بكلمة تؤذي، بل كان مجلسه مأمنًا للقلوب، ومرفأً للأرواح الباحثة عن الطمأنينة.
#فقهه ورسوخه في العلم:
تخرّج الشيخ الولي في مدارس العلم الأصيلة، ونهل من معين المحاضر الشنقيطية، فكان فقيهًا حنفيَّ العِرق مالكيَّ المذهب، متضلِّعًا في علم الأصول، عارفًا بفروع الفقه، محيطًا بمذاهب السلف والخلف. وكان في دراسته للفقه لا يقتصر على النقول، بل يغوص في المقاصد، ويعرض المسائل في ضوء الواقع، دون أن يفقد هيبة النصّ، ولا حرمة التراث.
عرف عنه تعظيمه لعلم الخلاف، واستحضاره الدقيق لأقوال المتقدمين مع إلمام بمستجدات العصر، مما جعله من العلماء الذين يَصدعون بالرأي المحكم، ويوازنون بين المأثور والمُعاصَر بمنهجية رصينة.
ورعه وزهده:
الشيخ الولي زاهد في الدنيا، عفيف النفس، بعيدًا عن مظان الشبهة، مستغنيًا بكفافه عن زينة الحياة. لا يطلب جاها ولا جاهًا، بل يفرّ من الأضواء كما يفرّ الطير من الفخ. وكان لا يُرى إلا صائمًا، ولا يُسمع إلا ذاكرًا، لا يفتح فاه في محفل إلا وعينه إلى السماء، ولسانه مسبّحٌ باسم الله.
وقد أثّرت فيه المدرسة الصوفية الشنقيطية تأثيرًا عميقًا، لا في الشكل الظاهر، بل في الجوهر الباطن، فكان قلبه معلّقًا بالله، وعقله منضبطًا بالوحي، وجوارحه طائعة مطواعة، لا يعرف الكبر طريقًا إلى سلوكه، ولا تتسلل الرياء إلى عمله.
كراماته وإشراقاته:
ولم تُعرف الكرامات في سيرته على هيئة خوارق تفوق العادة، بقدر ما كانت كراماته من نوع الخفاء في الظهور، والصفاء في العمق، والاستقامة التي تفوق الكرامة. ومن كراماته التي يرويها تلاميذه ومجالسيه أنه كان يُلهَم الفهم الدقيق في القرآن بمجرد سماع آية، ويشرح دقائق النحو والتفسير دون أن يفتح كتابًا، وكأنه يستحضر العلم من صدره لا من دفاتر الأسلاف.
وقد وقعت له إشراقات روحية في مجالس الذكر، حتى قيل إن بعض الحاضرين كان يرى أنوارًا تحيط به، ويشعر بخشوعٍ يفوق ما تفيض به الخطب والمواعظ، فأنّى سُمِع صوته يرتّل القرآن أو يشرح حديثًا، خُشعت القلوب وذرفت العيون.
الشيخ الولي محمذٍ بن محمودا، هو صورة حية للربانيين، وعلامة شامخة في سجل أولياء الأمة. جمع الله له بين فقه الكتاب، وفهم السنّة، وورع الزهاد، وكرامة الأتقياء، فسارت بذكره الركبان، وأحبته القلوب قبل الآذان.
فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء، وبارك في عمره وعلمه، وجعلنا ممن يحشرون في زمرته وزمرة من أحبهم في الله.